فصل: القسم الثاني: ما يكتب به عن الأتباع إلى السلطان والطبقة العليا من الرؤساء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثاني في بيان مقادير المكاتبات وما يناسبها من البسط والإيجاز وما يلائم كل مكاتبة منها من المعاني:

ولتعلم أن المكاتبات على ثلاثة أقسام:

.القسم الأول: ما يكتب عن السلطان أو من معناه من الرؤساء إلى الأتباع:

وهي على الضربين:
الضرب الأول: ما يعمل فيه على الإيجاز والاختصار:
وقد استحسنوا الإيجاز في خمسة مواضع: أن يكون المكتوب عن السلطان في أوقات الحروب إلى نواب الملك. قال في حسن التوسل: فيجب أن يتوخى الإيجاز والألفاظ البليغة الدالة على القصد، من غير تطويل ولا بسط يضيع القصد ويفصل الكلام بعضه من بعض. ولا يعمد في ذلك إلى تهويلٍ لأمر العدو يضعف القلوب، ولا تهوينٍ لأمره بحيث يحصل به الاغترار.
الثاني أن يكون ما يكتب به عن السلطان خبراً يريد التورية به عنه وستر حقيقته، كإعلامهم كالحوادث الحادثة على الملوك، والنوائب الملمة بالدولة من هزيمة جيش، أو تغيير رسم، أو إحداثه، أو تكليف الرعية ما لا يسهل عليها تكليفه وما أشبه ذلك. قال في مواد البيان: فيجب أن يقصد في ذلك الاختصار والإيجاز، ويعدل عن استعمال الألفاظ الخاصة بالمعنى إلى غيرها مما يحتمل التأويل، ولا تنفر الأسماع عنه، ولا تراع القلوب به، من غير أن يحتمل كذباً صراحاً، فإنه لا شيء أقبح بالسلطان، ولا أغمض لشأنه وقدره من أن يضمن كتابه ما ينكشف للعامة بطلانه. قال: وينبغي للكاتب أن يتخلص من هذا الباب التخلص الجيد الذي يزين به الأثر، من غير تصريح بكذب، وأن يخرج الباطل في صورة الحق، ويعرض سلطانه في ذلك للإحماد والتقريظ من حيث يستحق التأنيب والإذمام، فإن هذه سبيل البلاغة، وطريقة فضلاء الصناعة، لأن الأمر الظاهر الحسن المجمع على فضله لا يحتاج في التعبير عن حسنه إلى كد الخاطر، وإتعاب الفكر، إذ الألكن لا يعجز عن التعبير عنه فضلاً عن اللسن، وإنما الفضل في تحسين ما ليس بحسن، وتصحيح ما ليس بصحيح، بضروبٍ من التمويه والتخييل، وإقامة المعاذير، والعلل المعفية على الإساءة والتقصير، من حيث لا يلحق كذبٌ صريحٌ ولا زور مطلق. ولضيق هذا المقام وصعوبة مرتقاه، أورده الشيخ جمال الدين بن نباتة في جملة مسائله التي سأل عنها كتاب الإنشاء بدمشق فقال: وما الذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه الثالث أن يكون المكتوب به عن السلطان أمراً أو نهياً. قال في مواد البيان: فحكمها حكم التوقيعات الوجيزة الجامعة للمعاني، الجازمة بالأمر أو النهي، اللهم إلا أن يكون الأمر أو النهي مما يحتاج إلى رسوم ومثل يعمل عليها، فيحتاج إلى الإطالة والتكرير، بحسب ما يؤمر به وينهى عنه دون الحذف والإيجاز.
الرابع أن تكون الكتب المكتوبة عن السلطان باستخراج الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال. قال في مواد البيان: فسبيلها أن ينص فيها على ما رآه السلطان ودبره، ثم يختتم بفصل مقصورٍ على التوكيد في امتثال أمره وإنفاذه، ولا يقتصر على ما تقدم، إيجاباً للحجة، وتضييقاً للعذر، وحسماً لأسباب الاعتذار.
الخامس أن يكون ما يكتب به عن السلطان إحماداً أو إذماماً، أو وعداً أو وعيداً أو استقصاراً أو عذلاً أو توبيخاً. قال في مواد البيان: فيجب أن يشبع الكلام ويمد القول، بحسب ما يقتضيه أمر المكتوب إليه في الإساءة والإحسان، والاجتهاد والتقصير، لينشرح صدر المشمر المحسن، وينبسط أمله ورجاؤه، ويرتدع المقصر المسيء، ويرتجع عما يذم منه، ويتلافى ما فرط فيه.
الضرب الثاني: ما يعمل فيه على البسط والإطناب:
وقد استحسنوا البسط في موضعين:
أحدهما أن يكون ما يكتب به السلطان خبراً يريد تقرير صورته في نفوس العامة، كالأخبار بالفتوحات المتجددة في إعلاء الدين والسلطان. قال في مواد البيان: فيجب أن يشبع القول فيها، ويبني على الإسهاب والإطناب وتكثير الألفاظ المترادفة، ليعرفوا قدر النعمة الحادثة، وتزيد بصائرهم في الطاعة، ويعلو موضع سلطانهم من عناية الله تعالى به، فتقوى قلوب أوليائه، وتضعف قلوب أعدائه، لأنه لو كتب كتاباً في فتح جليل ليقرأ في المحافل والمشاهد العامة على رؤوس الأشهاد بين العامة ومن يراد تفخيم السلطان في نفسه على صورة الاختصار، لأوقع كلامه في غير رتبته، ودل ذلك على جهله. وقد أوضح الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، رحمه الله، هذا المقام في كتابه حسن التوسل فقال: وإذا كتب في التهاني بالفتوح فليس إلا بسط الكلام والإطناب في شكر نعمة الله تعالى، والتبري من الحول والقوة إلا به، ووصف ما أعطى من النصر، وذكر ما منح من الثبات، وتعظيم ما يسر من الفتح، ثم وصف ما بعد ذلك من عزم، وإقدام، وصبر، وجلد، عن الملك وعن جيشه مما حسن وصفه ولاق ذكره، وراق التوسع فيه، وعذب بسط الكلام معه. قال: ثم كلما اتسع مجال الكلام في ذكر الواقعة ووصفها، كان أحسن وأدل على السلامة، وأدعى لسرور المكتوب إليه، وأحسن لتوقع المنة عنده، وأشهى إلى سمعه، وأشفى لغليل شوقه إلى معرفة الحال. قال: ولا بأس بتهويل أمر العدو، ووصف جمعه وإقدامه، فإن في تصغير أمره تحقيراً للظفر به.
قال في مواد البيان: ولا يحتج للإيجاز في كتب الفتوح بما كتب به كاتب المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج في فتح الأزارقة، على ارتفاع خطره، وطول زمانه، وعظم صيته، من سلوكه فيه مسلك الاختصار، حيث كتب فيه: الحمد لله الذي كفى بالإسلام فقد ما سواه، وجعل الحمد متصلاً بنعماه، وقضى أن لا ينقطع المزيد من فضله، حتى ينقطع الشكر من خلقه. ثم إنا كنا وعدونا على حالين مختلفين، نرى منهم ما يسرنا أكثر مما يسوءنا، ويرون منا ما يسوءهم أكثر مما يسرهم، فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم، ينصرنا الله ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم، حتى بلغ الكتاب بناديهم أجله {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.
فإنه إنما حسن في موضعه لمخاطبة السلطان به، ولغرضٍ كانت المكاتبة فيه. قال: فإن كتب مثل هذا الكتاب عن السلطان في مثل هذا الفتح أو ما يقاربه، ليورد على العامة، ويقرر في نفوسهم به قدر النعمة، لم يحسن موقعه، وخرج عن شرط البلاغة بوضعه إياه في غير موضعه، وذكر العسكري نحو ذلك في الصناعتين.
ثم قال في حسن التوسل: وإن كان المكتوب إليه ملكاً صاحب مملكه بمفرده، تعين أن يكون البسط أكثر، والإطناب والتهويل أبلغ، والشرح أتم. ثم قال: وإن اضطر أن يكتب مثل ذلك إلى ملكٍ غير مسلم لكنه غير محاربٍ، فالحكم في ذلك أن يذكر من أسباب المودة ما يقتضي المشاركة في المسار، وأن أمر هذا العدو مع كثرته أخذ بأطراف الأنامل، وآل أمره إلى ما آل. ويعظم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر، ويقول: إن تلك عوائد نصر الله تعالى لنا، وانتقامه ممن عادانا.
وإن كان المكتوب إليه متهماً بممالأة العدو، كتب إليه بما يدل على التقريع والتهكم والتهديد في معرض الإخبار.
الثاني أن يكون ما يكتب به عن السلطان في أوقات حركات العدو إلى أهل الثغور، يعلمهم بالحركة للقاء عدوهم قال في حسن التوسل: فيجب أن يبسط القول في وصف العزائم، وقوة الهمم، وشدة الحمية للدين، وكثرة العساكر والجيوش وسرعة الحركة، وطي المراحل، ومعاجلة العدو، وتخييل أسباب النصر، والوثوق بعوائد الله تعالى في الظفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثهم على التيقظ، وحفظ ما بأيديهم، وما أشبه ذلك. ويبرز ذلك في أمثل كلام وأجله وأمكنه، وأقربه من القوة والبسالة، وأبعده من اللين والرقة. ويبالغ في وصف الإنابة إلى الله تعالى واستنزال نصره وتأييده، والرجوع إليه في تثبيت الأقدام، والاعتصام به في الصبر، والاستعانة به على العدو، والرغبة إليه في جذلانهم وزلزلة أقدامهم وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح ببطلان حركتهم، ورجاء تأخرهم، وانتظار العرضيات في ضعفهم، لما في ذلك من إيهام الضعف عن لقائهم، واستشعار الوهم والخوف منهم.

.القسم الثاني: ما يكتب به عن الأتباع إلى السلطان والطبقة العليا من الرؤساء:

وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما يعمل فيه على الإيجاز والاختصار:
وقد استحبوا الإيجاز في ثلاثة مواضع: أحدها أن يكون ما يكتب به من باب الشكر على نعمةٍ يسبغها سلطانه عليه، وعارفةٍ يسديها إليه. قال في مواد البيان: فسبيله أن لا يبنيها على الإسهاب وتجاوز الحد، بل يبنيها على اللفظ الوجيز، الجامع لمعاني الشكر، المشتمل على أساليب الاعتراف والاعتداد، فإن إطناب الأصاغر في شكر الرؤساء داخلٌ في باب الإضجار والإبرام، ولا سيما إذا رجعوا إلى خصوصية وتقدم خدمة. وكذلك لا يكثر من الثناء عليه، لأن ذلك من باب الملق الذي لا يليق إلا بالأباعد الذين لم يتقدم لهم من الموات والحرم ما يدل على صحة عقائدهم، ولم يضف عليهم من النعم ما يوجب خلوص نياتهم. أما إذا كان المثني أجنبياً مكتسباً بالتقريظ والثناء، فإنه لا يقبح به الإيغال والإغراق فيهما. قال: وكذلك لا ينبغي للخاصة الإكثار من الدعاء، وتكريره في صدور الكتب عندما يجري ذكر الرئيس، فإن في ذلك مشقةً وكلفة يستثقلها الملوك. والحكم فيما يستعمل من ذلك في الكتب شبيهٌ بما يستعمل شفاهاً منه. ويقبح من خادم السلطان أن يشغل سمعه في مخاطبته إياه بكثرة الدعاء وتكريره.
الثاني أن يكون ما يكتب به التابع إلى السلطان ونحوه في سؤال حسن النظر وشكوى الفقر والخصاصة. قال في مواد البيان: فيبني القول على الإيجاز ويمزج الشكوى بالشكر والاعتداد بالآلاء، والرغبة في مضاعفة الإحسان والزيادة في البر، والإلحاق بالطبقة الرابعة في إيلاء العوارف، فإن ذلك أعطف لقلب الرئيس، وأدعى إلى بلوغ الغرض. ولا يكثر شكوى الحال ورثاثتها، واستيلاء الخصاصة والفقر عليه، فإن ذلك يجمع إلى الإضجار والإبرام شكاية الرئيس بسوء حال مرؤوسه، وقلة ظهور نعمته عليه، وذلك مما يكرهه الرؤساء ويذمونه.
الثالث أن يكون ما يكتب به التابع إلى المتبوع من باب التنصل والاعتذار عن شيءٍ قرف به عند رئيسه. قال في مواد البيان: فسبيله أن يبني كلامه على الاختصار، ويعدل عن الإسهاب والإطناب، ويقصد إلى النكت التي تزيل ما عرض عنده من الشبهة في أمره، وتمحو الموجدة السابقة إلى ضمير رئيسه. ولا يصرح ببراءة الساحة عن الإساءة والتقصير، فإن ذلك مما يكرهه الرؤساء من أتباعهم، لأن عادتهم جاريةٌ بإيثار اعتراف الخدم بالتقصير والتفريط، والإقرار بالمقروف به ليكون لهم في العفو عند الإقرار موضع منة مستأنفة تستدعي شكراً، وعارفةً مستجدةٍ تقتضي نشراً. أما إذا أقام التابع الحجة على براءته مما قرف به، فلا موضع للإحسان إليه في إقراره على منزلته والرضا عنه، بل يكون ذلك قدراً واجباً له، إن منعه إياه ظلمه وتعدى عليه.
الضرب الثاني: ما يعمل فيه على البسط والإطناب:
وقد استحبوا البسط هنا في موضع واحدٍ، وهو ما إذا كان ما يكتب به التابع إلى السلطان واقعاً في باب الإخبار بأحوال ما ينظر فيه من الأعمال، وما يجري على يديه من المهمات. قال في مواد البيان: فسبيله أن يوفي حقه في الشرح والبيان، ويسلك فيه طريقةً يجمع فيها بين إيضاح الأغراض من غير هذر يضجر ويمل، ولا اختصار يقصر ويخل، وأن يقصد إلى استعمال الألفاظ السهلة التي تصل معانيها إلى الأفهام من غير كلفة، ويتجنب ما يقع فيه تعقيدٌ وتوعير أو إبهام، إلا أن يعرض له في المكاتبة ما يحتاج إلى التورية والكناية كما تقدم فيما إذا أطلق عدو لسانه في السلطان فإنه يحتاج إلى الكناية عنه على ما مر.

.القسم الثالث: ما يكتب به إلى الأكفاء والنظراء والطبقة الثانية من الرؤساء:

قال في مواد البيان: وسبيل مكاتبتهم أن يؤتى فيها باللفظ المساوي للمعنى من غير إيجاز ولا إطناب، لأنها رتبةٌ متوسطة بين الرتبتين المتقدمتين. ولا يخفى أن ما ذكره إنما هو عند الوقوف مع حقائق المكاتبات. أما الإخوانيات المطلقة، فإنها تكون في الطول والقصر بحسب ما بين الصديقين من المودة والقرب، وما يعلمه كل واحدٍ منهما من خلق الآخر، وما توجبه دالته عليه.
وسيأتي في مقاصد المكاتبات من أمثلة الأقسام الثلاثة ما يوضح مقاصدها ويقرب مآخذها إن شاء الله تعالى.

.الطرف الثالث في أمور تختص بالأجوبة:

وفيه جملتان:
الجملة الأولى في بيان أي الأمرين من الابتداء والجواب أعلى رتبةً وأبلغ في صناعة الكتابة:
وقد اختلف الكتاب في ذلك، فذهب أكثر البلغاء إلى أن الكتب الجوابية أتعب مطلباً وأصعب مرتقى من الكتب الابتدائية، وأن فيها تظهر مهارة الكاتب وحذقه، لا سيما إذا كان الخطاب محتملاً للاعتذار والاعتلال عن آمتثال الأوامر والنواهي، والتوارية عن نصوص الأحوال، والإعراض عن ظواهرها، قائداً إلى استعمال المغالطة، موجباً للانفصال عن الاحتجاج والإلزام، ونحو ذلك مما يؤدي إلى الخلاص من المكاره.
وآحتجوا لترجيح ذلك بوجوه.
منها أن المبتديء محكم في كتابه، بألفاظه كيف شاء، ويقطعها حيث يشاء، ويتصرف في التقديم والتأخير، والحذف والإثبات والإيجاز والإسهاب، ويبني على أساس يؤسسه لنفسه، والمجيب ليس له تقديم ملا تأخير، وإنما هو تابع لغرض المبتدىء، بانٍ على أساسه.
ومنها أن المجيب إذا كان جوابه محتملاً للإشباع والتوسع مضطر إلى اقتصاص ألفاظ المبتدىء واتباعها للإجابة عنها، وذلك يؤدي إلى تصفح كلام المتبديء والمجيب ويصل ما بين الكلامين، لأن الكلامين يتقابلان فلا تخفى رتبتهما والفاضل منهما من الرذل، وهذا مرفوعٌ عن المبتديء.
ومنها أن تأليف الكلام وانتظامه واتساقه والتئامه يقدر منها المبتديء على ما لا يقدر عليه المجيب، لأن الجواب يفصل أجزاء الكلام ويبدد نظامه ويقسمه أقساماً، لمكان الحاجة إلى استئناف القول من الفصل بعد الفصل بقول وأما كذا وأما كذا، فظهور الصورة المستحسنة في المتصل أكثر من ظهورها في المنفصل.
أما إذا كان الجواب متقضياً مبنياً على امتثال مأمور، أو انتهاءٍ عن منهي عنه، فإنه سهل المرام، قريب المتنأول، لأنه إنما يشتمل على ذكر وصول الكتاب والعمل بما فيه.
وذهب صاحب مواد البيان إلى أن الابتداء والجواب في ذلك على حد واحدٍ، وإن كان الكاتب قد يجيد في الابتداء ولا يجيد في الجواب وبالعكس محتجاً لذلك بأن كلا من المبتديء والمجيب ممتاحٌ من جودة الغريزة، محتاجٌ من البلاغة والصناعة إلى ما يحتاج إليه الآخر، لأن الكاتب يكون تارةً مبتدئاً وتارةً مجيباً، وليست الإجابة بصناعةٍ على حيالها، ولا البداية بصناعةٍ على حياله، بل هما كالنوعين للجنس، ولا منع من أن يكون الكاتب ماهراً في نوعٍ دون نوعٍ.
قال: والكاتب لا يكون في الأمر الأعم كاتباً عن نفسه وإنما يكون كاتباً عن آمرٍ يأمره بالكتابة في أغراضه ويسلمها إليه منثورةً، فيحتاج إلى نظمها وضمها وإبرازها في صورةٍ محيطةٍ بجميع الأغراض من غير إخلالٍ بشيءٍ منها، فعلى المبتديء من المشقة في إيراد أغراض المكتوب عنه في الصورة الجامعة لها مع نظمها في سلك البلاغة مثل ما على المجيب من المشقة في توفية فصول كتاب المبتديء حقها من الإجابة والتصرف على أوضاع ترتيبها، بل كلفة المجيب قريبة، لأنه يستنبط من نفس معاني كتاب المبتديء للمعاني التي يجيب بها، لأن الجواب لا يخلو من أن يكون يوافق الابتداء أو يناقضه، فإن وافقه فالأمر سهل، وإن ناقضه فإن كل نقيض قائمٌ في الوهم على مقابلة نقيضه، إلا أنه أتعب على كل حال من الموافق، ولا شك أن الجواب بتجزئته قد خف تحمله، إذ ليس من يجمع خاطره على الفصل الواحد حتى يخرج عن جوابه كمن يجمع خاطره على الكتاب كله، ثم قال: وليس القصد مما ذكرناه مناقضة مشايخ صناعتنا، ولكن القصد تعريف الحق الذي يجب اعتقاده والعمل عليه.
الجملة الثانية في بيان ترتيب الأجوبة:
واعلم أن الجواب حالتين:
الحالة الأولى أن يكون الجواب من الرئيس إلى المرؤوس عما كتب به الرئيس إليه، فالذي ذكره في مواد البيان أن للرئيس أن يبني حكاية كتاب مرؤوسه إليه في جوابه على الاختصار، ويجمع معانيه في ألفاظٍ وجيزةٍ، محيطةٍ بما وراءها كأن يقول: وصل كتابك في معنى كذا وفهمناه.
الحالة الثانية أن يكون الجواب من المرؤوس إلى الرئيس عما كتب به الرئيس إليه، قال في مواد البيان: والواجب في هذه الحالة أن يحكي فصول كتاب رئيسه على نصه ويقصها على وجهها من غير إخلالٍ بشيءٍ منها، إعظاماً لقدر الرئيس وإجلالاً لخطابه. قال: وليس للمجيب إن مر في كتاب الرئيس بلفظة واقعة في غير موضعها أن يبدلها بغيرها، لما في ذلك من الإشارة إلى أن هذا أصح من كتاب رئيسه في ألفاظه ومعانيه. قال: ولا يجوز الخروج عن حكاية لفظ رئيسه في كتابه بحال، اللهم إلا أن يكون الكتاب الوارد على المجيب في معنى الشكر والتقريظ من رئيسه له والثناء عليه في قيامه بالخدمة، فإنه لا يجوز أن يأتي به على نصه، لأنه يصير بذلك مادحاً نفسه، ومدح الإنسان نفسه غير سائغ، ولا يجوز أن يهمل ذكره جملةً، لأنه يكون قد أخل بما يجب من شكره له على تشريف رتبته بإحماده له والثناء عليه، بل الواجب أن يوقع تلك الصفة على جملةٍ تجعل نفسه بعضاً منها، مثل أن يقول: فأما ما وصفه من اعتداده بخادمه في جملة من نهض بحقوق خدمته، وقام بفرض طاعته، فأهله لما يرفع الأقدار من إحماده وثنائه، ويعلي الأخطار من شكره ودعائه، وما يضاهي هذا من العبارة التي تشتمل على معاني ألفاظ رئيسه، فإنه إذا قصد هذا السبيل في حكاية كتاب رئيسه في هذا المعنى، فقد جمع بين البلاغة والإتيان على معاني ألفاظ رئيسه والأدب في ترك التفخيم لنفسه بإضافته لها إلى جملة الخاصة دون إيقاع المدح عليها فقط.
قلت: هذا هو الترتيب الذي يجب اعتماده في الأجوبة، فلا يجوز الخروج عنه إلى غيره، على أن الكتاب زماننا قد اطرحوا النظر في ذلك جملةً، وصاروا يكتبون الأجوبة بحسب التشهي، فمنهم من يحكي الكتاب الذي يقع الجواب عنه بنصه مطلقاً، سواءٌ كان من رئيس أو مرؤوس وبالعكس، مع قطع النظر عما وراء ذلك. فتنبه لهذه الجملة فإنها دقيقةٌ جليلةٌ.